موسم ثقافي وليس افتراضاً

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
13/10/2008 06:00 AM
GMT



على الرغم من بطء وضيق وتواضع النشاطات الثقافية التي تقام هذه الايام، فإن البعض يقدم موقفاً وتحليلا يروج للاجهاز حتى على هذه الحركة الثقافية، فهناك من يستكثر ان تقدم مسرحية هنا، او تقام جلسة شعرية هناك، ونشاط تشكيلي في كلية او قاعة، بل حتى يعطي حكماً لجميع هذه النشاطات بأنها محاولة من المثقفين لاقناع انفسهم بتحسن الوضع الامني.
فحتى لو كان كل هذا النشاط حسب فهم هؤلاء، محاولة لاقناع الجمهور اوغيرهم بتحسن الوضع الامني، فهو في النتيجة فعل انساني مشروع يطمح للتشبث بالحياة والثقافة معاً.

لم يتوقف من يكتب مقالات لمهاجمة الوضع الثقافي عند هذا الحد، بل راح يضفي صفة الافتراض على حقائق ونشاطات على ارض الواقع، فهناك موسم ثقافي هذه الايام في بغداد والمحافظات، لذا لم يرق لهؤلاء ان يسموا ما يحدث نشاطا ثقافيا، بفهم ان ما يقدم من عروض مسرحية، ومعارض تشكيلية وندوات واصبوحات ادبية هو حالة افتراضية اقرب للوهم من الحقيقة، وجرى التعاطي مع اي نشاط ثقافي من هذا القبيل بوصفه قفزا فوق واقع ينهار،فكيف يمكن تبني مثل هذه النظرة التي تخلو من اي تعاطف انساني وثقافي مع جمهور بقي مدة طويلة سجين البيت والعمل،في ظل ظروف قاهرة امنيا وحياتيا،ولا يمكن التعامل مع هذه المواقف الا على أساس انها اساءة للابداع ،واتخاذ مواقف مسبقة من وقائع ثقافية لا دور لهم فيها، وهي من جانب اخر اساءة للمتلقي ، لانها تنطوي على موقف يستكثر فيه على المواطن العراقي ان يحضر حفلا موسيقيا او معرضا فنيا او مسرحية لمدة ساعة.
ففي ظل التحسن الامني نسبيا، تتصاعد بعض النشاطات الثقافية التي تقترب من فكرة موسم ثقافي ناجح قياسا بالظروف الراهنة، فبدلاً من اشاعة حالة من الحماسة والتفاعل مع هذه النشاطات ودعمها، يتم تقديمها بوصفها وهما مرة ،ومرة افتراضا، ومرة محاولة لافتعال حركة ثقافية.
وليس من المعقول ان يقال ان قطاع المسرح لا يقنع نفسه بتحسن الوضع الامني، وانما يتحدى الظرف الامني ويقدم اعمالا مسرحية وان كانت قليلة، لكنها في النتيجة تصب في اطار النشاط الثقافي عموماً،وما العرض المسرحي الذي يقدم على المسرح الوطني ( جيب الملك جيبه )الا خطوة فعلية وواقعية تسهم في اخراج المشاهد من البيت الى المسرح على الرغم من التحديد الزماني والمكاني لظاهرة مثل هذه،وهي خطوة واضحة راحت فيها العوائل المتابعة للمسرح تتوافد على قاعة المسرح، فالجمهور هنا والمسرحية ايضا واقع ملموس وليس افتراضا كما وصفتموه.
اما اللجوء للمقارنة بين المواسم الثقافية السابقة وما يجري الان من حركة متواضعة ، مقارنة تقفز فوق الاحداث، وتهمل الضغوط لمصلحة ماض ثقافي في افضل حالاته لم يكن يقترب من تسمية الموسم الثقافي، فطبيعة النشاط المحدود الان والمقيد بعدة عوائق لا يمكن ان يقارن مع حالة من الاستقرار كانت سائدة، فضلا عن تعرض البنية التحتية للثقافة ومؤسساتها لدمار معلوم للجميع، وكذلك هجرة الكثير من المبدعين في كل المجالات الامر الذي يترك تأثيراً على كل مفاصل الحركة الثقافية،فكيف تصح مقارنة من هذا القبيل؟
لكن يبقى كل ما يجري من نشاط ثقافي هو امتياز وجرأة وتعبير عن الايمان بقوة الفعل الثقافي يحسب لمصلحة الحياة والثقافة في العراق، بسبب ان اصرار المتبقين داخل العراق من مبدعين على كسر عزلة الجمهور ، ودعوته لنشاط ثقافي هو خطوات جادة وانسانية لاستمرار الحياة قبل اي شيء .
اما وصف حركة الجمهور نحو المسرح وقاعات التشكيل وحتى بعض الحفلات بأنه مغامرة، فهو كلام يعترضه سأم الجمهور والمبدع معا من الاستسلام لظروف قاهرة واصرارهما على ان نوفر لها فهما ومساندة لاستعادة ولو الحد الادنى من الاطار الانساني لحياتنا الراهنة .لذا ليس من العدل الا نتحمس او نعاضد او نبارك مثل هذا النشاط.وكذلك يجب الا نستكثر على الانسان العراقي فسحة وان كانت ضيقة تسمح له بأن يخرج نحو قاعة المسرح او التشكيل او غيرها من النشاطات، سعياً لمغادرة مناخ من التوتر النفسي والاجتماعي ، لخلق بدائل اخرى تشكل ضرورة للعقل والوعي الانسانيين.
ان محاولة اشاعة صفة الافتراض، او ردة الفعل على مجموعة من النشاطات الثقافية تتواصل باصرار وشجاعة يتخللهما الكثير من التجني، فضلا عن كونهما يعبران عن مصادرة لحقوق الانسان في حقه في الثقافة والمعرفة.
فلا يفهم من كتابات هنا وهناك انها تحاول ان تقلل من اهمية ما يمكن تسميته بحركة ثقافية، انها تنحاز للثقافة، وانما هي نوع من الحنين لماض ثقافي تم تجاوزه،وموقف سياسي متطرف، والا كيف يمكن فهم مثل هذه الآراء التي يمكن وصفها باللاانسانية، فهل يتوجب ان تتوقف حركة المسرح، والتشكيل والموسيقى وغيرها من النشاطات، كي تستقيم فكرة الانحياز لماض كان يوجه الثقافة ويقننها،فحتى في ظل تراجع حجم ومساحة الفعل الثقافي الان ان النشاط الثقافي يتحرك وان كانت حركته تتأثر بظروف راهنة معلومة للجميع، بسبب هجرة الكثير من المبدعين،ولا يمكن القول ان المؤتمرات والملتقيات مع وجودها المتواضع الان هي المؤشر الوحيد على وجود حركة ثقافية، فأفق الحياة الثقافية تمر به الكثير من التحولات فرضتها ظروف حياتية وامنية واقعية، لم تنجح في ايقاف حركة الابداع .
اما الوصف الذي قدمتها بعض المقالات للاصبوحات والجلسات الادبية بأنها ليست جوهرية، وانها نشاط هامشي وباتجاه واحد، امر يفتقد الرؤية الدقيقة التي تأخذ حالة عامة يحياها الناس عموما،فحتى في ظل غياب الدعم الحكومي لهذه الحركة الثقافية، ووجود معوقات كثيرة، لايمكن الذهاب الى ان الثقافة في العراق في طريقها للموت او الضياع،فليست الثقافة ملموساً مادياً، او مؤتمرات ادبية برعاية حكومية، فمنظور مثل هذا يعكس فهماً ضيقاً للثقافة يهمل المتغيرات التي يمر بها العالم بأجمعه، فكيف بظرف مثل الذي يعيشه العراقيون، متلقين ومبدعين؟ ولا يمكن القول ان الحياة الثقافية في العراق سائرة نحو المجهول، او انها بلا اتجاه،صحيح انها ثقافة تمر بتحديات، وتتعرض لتوجيه مساراتها الا انها تعيش رفضا، لكل ذلك، فطبيعة الثقافي وتجلياته على الرغم من كل التحديات يشكل قيمة وخزيناً خلاقاً له القدرة على مواجهة العزلة، والخوف والقمع، لتجاوز حالة من الركود يراد للثقافة ان تراوح فيه تحت مبررات ومواقف معادية للثقافة أصلاً.